فصل: تفسير الآية رقم (5):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (5):

{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)}
قوله عز وجل: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} يعني: الذبائح على اسم الله عز وجل، {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} يريد ذبائح اليهود والنصارى ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل مبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم حلال لكم، فأما من دخل في دينهم بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فلا تحل ذبيحته، ولو ذبح يهودي أو نصراني على اسم غير الله كالنصراني يذبح باسم المسيح فاختلفوا فيه، قال عمر لا يحل، وهو قول ربيعة، وذهب أكثر أهل العلم إلى أنه يحل، وهو قول الشعبي وعطاء والزهري ومكحول، سئل الشعبي ومكحول عن النصراني يذبح باسم المسيح، قالا يحل فإن الله تعالى قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون، وقال الحسن: إذا ذبح اليهودي أو النصراني فذكر اسم غير الله وأنت تسمع فلا تأكله فإذا غاب عنك فكل فقد أحل الله لك.
قوله عز وجل: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} فإن قيل: كيف شرع لهم حل طعامنا وهم كفار ليسوا من أهل الشرع؟ قال الزجاج: معناه حلال لكم أن تطعموهم فيكون خطاب الحل مع المسلمين، وقيل: لأنه ذكر عقيبه حكم النساء، ولم يذكر حِلّ المسلمات لهم فكأنه قال حلال لكم أن تطعموهم حرام عليكم أن تزوجوهم.
قوله عز وجل: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} هذا راجع إلى الأول منقطع عن قوله: {وطعامكم حل لهم}.
اختلفوا في معنى {المحصنات} فذهب أكثر العلماء إلى أن المراد منهن الحرائر، وأجازوا نكاح كل حرة، مؤمنة كانت أو كتابية، فاجرة كانت أو عفيفة، وهو قول مجاهد، وقال هؤلاء: لا يجوز للمسلم نكاح الأمة الكتابية لقوله تعالى: {فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} [سورة النساء، 25] جوّز نكاح الأمة بشرط أن تكون مؤمنة، وجوّز أكثرهم نكاح الأمة الكتابية الحربية، وقال ابن عباس: لا يجوز وقرأ {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله} إلى قوله: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة، 29]، فمن أعطى الجزية حل لنا نساؤه ومن لم يعطها فلا يحل لنا نساؤه.
وذهب قوم إلى أن المراد من المحصنات في الآية: العفائف من الفريقين حرائر كن أو إماء وأجازوا نكاح الأمة الكتابية، وحرموا البغايا من المؤمنات والكتابيات، وهو قول الحسن، وقال الشعبي: إحصان الكتابية أن تستعف من الزنا وتغتسل من الجنابة.
{إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} مهورهن {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} غير معالنين بالزنا، {وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} أي: يسرون بالزنا، قال الزجاج: حرم الله الجماع على جهة السفاح وعلى جهة اتخاذ الصديقة، وأحله على جهة الإحصان وهو التزوج.
{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} قال مقاتل بن حيان: يقول ليس إحصان المسلمين إياهن بالذي يخرجهن من الكفر أو يغني عنهن شيئا وهى للناس عامة: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين}.
قال ابن عباس ومجاهد في معنى قوله تعالى: {ومن يكفر بالإيمان} أي: بالله الذي يجب الإيمان به.
وقال الكلبي: بالإيمان أي: بكلمة التوحيد وهي شهادة أن لا إله إلا الله.
وقال مقاتل: بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن، وقيل: من يكفر بالإيمان أي: يستحل الحرام ويحرّم الحلال فقد حبط عمله، وهو في الآخرة من الخاسرين قال ابن عباس: خسر الثواب.

.تفسير الآية رقم (6):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)}
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} أي: إذا أردتم القيام إلى الصلاة، كقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} [سورة النحل، 98]، أي: إذا أردت القراءة.
وظاهر الآية يقتضي وجوب الوضوء عند كل مرة يريد القيام إلى الصلاة، لكن أعلمنا ببيان السنة وفعل النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد من الآية: {إذا قمتم إلى الصلاة} وأنتم على غير طُهر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ».
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق بين أربع صلوات بوضوء واحد، أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد الحنيفي أنا أبو الحارث طاهر بن محمد الطاهري أنا أبو محمد الحسن بن محمد بن حليم أنا أبو الموجه محمد بن عمرو بن الموجه أنا عبدان أنا سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم فتح مكة الصلوات بوضوء واحد، ومسح على خفيه.
وقال زيد بن أسلم: معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة من النوم.
وقال بعضهم: هو أمر على طريق الندب، ندب من قام إلى الصلاة أن يجدد لها طهارته وإن كان على طهر، روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات».
ورُوي عن عبد الله بن حنظلة بن عامر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة طاهرا أو غير طاهر، فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك لكل صلاة».
وقال بعضهم: هذا إعلام من الله سبحانه وتعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا وضوء عليه إلا إذا قام إلى الصلاة دون غيرها من الأعمال، فأذن له أن يفعل بعد الحدث ما بَدَا له من الأفعال غير الصلاة، أخبرنا أبو القاسم الحنيفي أنا أبو الحارث الطاهري أنا الحسن بن محمد بن حليم أنا أبو الموجه أنا صدقة أنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار سمع سعيد بن الحويرث سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فرجع من الغائط فأتي بطعام فقيل له: ألا تتوضأ؟ فقال: لِمَ؟ أأصلي فأتوضأ؟.
قوله عزّ وجلّ: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} وحدُّ الوجه من مَنَابتِ شعر الرأس إلى مُنتهى الذقن طولا وما بين الأذنين عرضا يجب غسل جميعه في الوضوء، ويجب أيضا إيصالُ الماء إلى ما تحت الحاجبين وأهداب العينين والشارب والعذار أو العنفقة وإن كانت كثيفة وأما العارض واللحية فإن كانت كثيفة لا تُرى البشرة من تحتها لا يجب غسل باطنها في الوضوء، بل يجب غسل ظاهرها.
وهل يجب إمرار الماء على ظاهر ما استرسل من اللحية عن الذقن؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب، وبه قال أبو حنيفة، لأن الشعر النازل عن حد الرأس لا يكون حكمه حكم الرأس في جواز المسح عليه، كذلك النازل عن حدّ الوجه لا يكون حكمه حكم الوجه في وجوب غسله.
والقول الثاني: يجب إمرار الماء على ظاهره، لأن الله تعالى أمر بغسل الوجه، والوجه ما يقع به المواجهة من هذا العضو، ويقال في اللغة بقل وجه فلان وخرج وجهه: إذا نبتت لحيته.
قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} أي: مع المرافق، كما قال الله تعالى: {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} [سورة النساء، 2] أي: مع أموالكم، وقال: {من أنصاري إلى الله} [سورة آل عمران، 52 وسورة الصف، 14]، أي: مع الله.
وأكثر العلماء على أنه يجب غسل المرفقين، وفي الرِّجْل يجب غسل الكعبين، وقال الشعبي ومحمد بن جرير: لا يجب غسل المرفقين والكعبين في غسل اليد والرِّجْل لأن حرف إلى للغاية والحدّ، فلا يدخل في المحدود.
قلنا: ليس هذا بحدّ ولكنه بمعنى مع كما ذكرنا، وقيل: الشيء إذا حدّ إلى جنسه يدخل فيه الغاية، وإذا حدّ إلى غير جنسه لا يدخل، كقوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} [سورة البقرة، 187]، لم يدخل الليل فيه لأنه ليس من جنس النهار.
قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} اختلف العلماء في قدر الواجب من مسح الرأس، فقال مالك: يجب مسح جميع الرأس كما يجب مسح جميع الوجه في التيمم، وقال أبو حنيفة: يجب مسح ربع الرأس، وعند الشافعي رحمه الله: يجب قدر ما يطلق عليه اسم المسح.
واحتج من أجاز مسح بعض الرأس بما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا يحيى بن حسان عن حماد بن زيد وابن علية عن أيوب السختياني عن ابن سيرين عن عمرو بن وهب الثقفي عن المغيرة بن شعبة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى عمامته وخفيه»، فأجاز بعض أهل العلم المسح على العمامة بهذا الحديث، وبه قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق.
ولم يُجوّز أكثر أهل العلم المسح على العمامة بدلا من المسح على الرأس، وقالوا: في حديث المغيرة أن فرض المسح سقط عنه بمسح الناصية، وفيه دليل على أن مسح جميع الرأس غير واجب.
قوله عزّ وجلّ: {وَأرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}، قرأ نافع وابن عامر والكسائي ويعقوب وحفص {وأرْجُلَكم} بنصب اللام، وقرأ الآخرون {وأرْجُلِكم} بالخفض، فمن قرأ {وأرجلكم} بالنصب فيكون عطفا على قوله: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم} أي: واغسلوا أرجلكم، ومن قرأ بالخفض فقد ذهب قليل من أهل العلم إلى أنه يمسح على رجلين، ورُوي عن ابن عباس أنه قال: الوضوء غسلتان ومسحتان، ويُروى ذلك عن عكرمة وقتادة، وقال الشعبي: نزل جبريل بالمسح وقال: ألا ترى المتيمم يمسح ما كان غسلا ويلغي ما كان مسحا؟
وقال محمد بن جرير الطبري يتخير المتوضئ بين المسح على الخفين وبين غسل الرجلين.
وذهب عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين وغيرهم إلى وجوب غسل الرجلين، وقالوا: خفض اللام في الأرجل على مجاورة اللفظ لا على موافقة الحكم، كما قال تبارك وتعالى: {عذاب يوم أليم}، فالأليم صفة العذاب، ولكنه أخذ إعراب اليوم للمجاورة، وكقولهم: جُحْرُ ضبٍ خربٍ، فالخرب نعت للجُحر، وأخذ إعراب الضبِّ للمجاورة.
والدليل على وجوب غسل الرجلين: ما أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن العباس الحميدي الخطيب أنا أبو عبد الله الحافظ أنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب أنا يحيى بن محمد بن يحيى أنا الحجبي ومسدد قالا أخبرنا أبو عوانة عن أبي بشر عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرٍو قال: تخلف عنّا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر سافرناه فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة صلاة العصر، ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادانا بأعلى صوته: «ويل للأعقاب من النار».
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل حدثنا عبدان أنا عبد الله أنا معمر حدثني الزهري عن عطاء بن يزيد عن حمران مولى عثمان قال: «رأيت عثمان رضي الله عنه توضأ فأفرغ على يديه ثلاثا ثم مضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثا ثم غسل يده اليسرى إلى المرفق ثلاثا، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا ثم اليسرى ثلاثا ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال: من توضأ وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث نفسه فيهما بشيء غفر الله له ما تقدّم من ذنبه».
وقال بعضهم: أراد بقوله: {وَأَرْجُلَكُم} المسح على الخفين كما رُوي: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع وضع يديه على ركبتيه» وليس المراد منه أنه لم يكن بينهما حائل، ويُقال: قبّل فلان رأس الأمير ويده، وإن كانت العمامة على رأسه، ويده في كمه.
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو نعيم أنا زكريا عن عامر عن عروة بن المغيرة عن أبيه رضي الله عنهما قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في سفر فقال: «أمعك ماء» فقلت: نعم، فنزل عن راحلته فمشى حتى توارى عني في سواد الليل، ثم جاء فأفرغت عليه من الإداوة فغسل وجهه ويديه، وعليه جبة من صوف فلم يستطع أن يُخرج ذراعيه منها حتى أخرجهما من أسفل الجبة فغسل ذراعيه، ثم مسح برأسه، ثم أهويت لأنزع خفيه فقال: «دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين»، فمسح عليهما.
قوله تعالى: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} فالكعبان هما العظمان الناتئان من جانبي القدمين، وهما مجتمع مفصل الساق والقدم، فيجب غسلهما مع القدمين كما ذكرنا في المرفقين.
وفرائض الوضوء: غسل الأعضاء الثلاثة كما ذكر الله تعالى، ومسح الرأس، واختلف أهل العلم في وجوب النية: فذهب أكثرهم إلى وجوبها لأن الوضوء فيفتقر إلى النية كسائر العبادات، وذهب بعضهم إلى أنها غير واجبة وهو قول الثوري وأصحاب الرأي.
واختلفوا في وجوب الترتيب، وهو أن يغسل أعضاءه على الولاء كما ذكر الله تبارك وتعالى: فذهب جماعة إلى وجوبه، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق رحمهم الله، ويروى ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه.
واحتج الشافعي بقول الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [سورة البقرة، 158]. وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالصفا، وقال: «نبدأ بما بدأ الله به» وكذلك هاهنا بدأ الله تعالى بذكر غسل الوجه فيجب علينا أن نبدأ فعلا بما بدأ الله تعالى به ذكرا.
وذهب جماعة إلى أن الترتيب سنّة، وقالوا: الواوات المذكورة في الآية للجميع لا للترتيب كما قال الله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} الآية [سورة التوبة، 60]، واتفقوا على أنه لا تجب مراعاة الترتيب في صرف الصدقات إلى أهل السهمان، ومن أوجب الترتيب أجاب بأنه لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه راعى الترتيب بين أهل السهمان، وفي الوضوء لم ينقل أنه توضأ إلا مرتبا كما ذكر الله تعالى، وبيان الكتاب يُؤخذ من السنة كما قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا} [سورة الحج، 77]، لما قدم ذكر الركوع على السجود، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل إلا كذلك فكان مراعاة الترتيب فيه واجبة، كذلك الترتيب هنا.
قوله عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} أي: اغتسلوا، أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه، ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يُدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره، ثم يصبُّ على رأسه ثلاث غرفات بيديه، ثم يفيض الماء على جلده كله».
قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} فيه دليل على أنه يجب مسح الوجه واليدين بالصعيد وهو التراب، {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ} بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم، {مِنْ حَرَجٍ} ضيق، {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} من الأحداث والجنابات والذنوب، {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} قال محمد بن كعب القرظي: إتمام النعمة تكفير الخطايا بالوضوء كما قال الله تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} [سورة الفتح، 2]، فجعل تمام نعمته غفران ذنوبه.
أخبرنا أبو الحسن عبد الوهاب بن محمد الكسائي أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه عن حمران: أن عثمان توضأ بالمقاعد ثلاثا ثلاثا ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من توضأ وضوئي هذا خرجت خطاياه من وجهه ويديه ورجليه».
أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن حمران مولى عثمان: أن عثمان بن عفان رضي الله عنه جلس على المقاعد يوما فجاءه المؤذن فآذنه بصلاة العصر فدعا بماء فتوضأ، ثم قال: والله لأحدثنكم حديثا لولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه، ثم قال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من امرئ مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يصلي الصلاة إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى حتى يصليها» قال مالك: أراه يريد هذه الآية {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} ورواه ابن شهاب وقال عروة: الآية {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات} [سورة البقرة، 159].
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا يحيى بن بكير أنا الليث عن خالد عن سعيد بن أبي هلال عن نعيم المجمر قال رقيت مع أبي هريرة رضي الله عنه على ظهر المسجد، فتوضأ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع أن يطيل منكم غرته فليفعل».